الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
وهذا مما يتعذر فيه السجود والمتعارف، وقال مجاهد: سجود هذه الأشياء هو بظلالها، وقال بعضهم سجودها هو بظهور الصنعة فيها. ع: هذا وهو وإنما خلط هذه الآية بآية التسبيح وهناك يحتمل أن يقال هي بآثار الصنعة، وقوله تعالى: {وكثير حق عليه العذاب} يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم، أي {وكثير حق عليه العذاب} يسجد، أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكارة ونحو ذلك، قاله مجاهد، وقال: سجوده بظله ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء مقطوعاً مما قبله وكأن الجملة معادلة لقوله: {وكثير من الناس} لأن المعنى أنهم مرحومون بسجودهم ويؤيد هذا قوله تعالى بعد ذلك {ومن يهن الله} الآية وقرأ جمهور الناس {من مكرِم} بكسر الراء، وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على معنى من موضع كرامة أو على أنه مصدر كمدخل، وقرأ الجمهور {والدوابّ} مشددة الباء، وقرأ الزهري وحده بتخفيف الباء وهي قليلة ضعيفة وهي تخفيف على غير قياس كما قالوا ظلت وأحست وكما قال علقمة: [البسيط] أراد بسبائب الكتان وأنشد أبو علي في مثله: [الكامل] وهذا باب إنما يستعمل في الشعر فلذلك ضعفت هذه القراءة وقوله تعالى: {هذان خصمان} الآية، اختلف الناس في المشار إليه بقوله: {هذان} فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف: نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر وهو ستة: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري، وقال ابن عباس: الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم ديناً منكم ونحو هذا، فنزلت الآية، وقال عكرمة: المخاصمة بين الجنة والنار، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي: الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية، وذلك أنه تقدم قوله: {وكثير من الناس} المعنى هم مؤمنون ساجدون، ثم قال: {وكثير حق عليه العذاب} ثم أشار الى هذين الصنفين بقوله: {هذان خضمان} والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعدواة والجدال والحرب، وقوله تعالى: {خصمان} يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله: {اختصموا} فإنها قراءة الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة {اختصما في ربهم} وقوله: {في ربهم} معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم، و{قطعت} معناه جعلت لهم بتقدير، كما يفصل الثوب، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي، وروي في صب {الحميم} وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب المقامع فتنكشف أدمغتهم فيصب {الحميم} حينئذ، وقيل بل يصب أولاً فيفعل ما وصف، ثم تضرب ب المقامع بعد ذلك، و{الحميم} الماء المغلي، و{يصهر} معناه يذاب، وقيل معناه يعصر وهذه العبارة قلقة، وقيل معناه ينضج ومنه قول الشاعر: وإنما يشبه فيمن قال يعصر أنه أراد الحميم يهبط كل ما يلقى في الجوف ويكشطه ويسلته، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسلته ويبلغ به قدميه ويذيبه، ثم يعاد كما كان، وقرأ الجمهور {يصهر} وقرأت فرقة {يصَهّر} بفتح الضاد وشد الهاء، و{المِقمعة} بكسر الميم مقرعة من حديد يقمع بها المضروب، وقوله: {أرادوا} روي فيه أن لهب النار إذا ارتفع رفعهم فيصلون إلى أبواب النار فيريدون الخروج فيضربون ب المقامع وتردهم الزبانية ومن في قوله: {منها} الابتداء الغاية، وفي قوله: {من غم} يحتمل أن تكون لبيان الجنس ويحتمل أن تكون لابتداء غاية أيضاً وهي بدل من الأولى. وقوله: {وذوقوا} هنا محذوف تقديره ويقال لهم: {ذوقوا} و{الحريق} فعيل بمعنى مفعل أي محرق، وقرأ الجمهور {هذان} بتخفيض النون وقرأ ابن كثير وحده {هذانّ} بتشديد النون، وقرأها شبل وهي لغة لبعض العرب في المبهمات، كاللذان، وهذان وقد ذكر ذلك أبو علي.
ومنه قول الأعشى: وهذا كثير ويجوز أن يكون التقدير {ومن يرد فيه} الناس {بإلحاد} والإلحاد الميل، وهذا الإلحاد والظلم يجمع جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السئية فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب بذلك إلا في مكة، هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم، وقال ابن عباس: الإلحاد في هذه الآية الشرك، وقال أيضاً: هو استحلال الحرام وحرمته، وقال مجاهد: هو العمل السيئ فيه، وقال عبدالله بن عمرو: قول لا والله وبلى والله بمكة من الإلحاد، وقال حبيب بن أبي ثابت: الحكرة بمكة من الإلحاد بالظلم. ع. والعموم يأتي على هذا كله، وقرأت فرقة {ومن يرد} من الورود حكاه الفراء، والأول أبين وأعم وأمدح للبقعة، و{من} شرط جازمة للفعل وذلك منع من عطفها على {الذين} والله المستعان.
واللام في قوله تعالى: {لإبراهيم} قالت فرقة هي زائدة، وقالت فرقة {بوأنا} نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا ع والأظهر أن يكون المفعول الأول ب {بوأنا} محذوفاً تقديره الناس أو العالمين، ثم قال: {لإبراهيم} بمعنى له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوؤا، و{البيت} هو الكعبة، وكان فيما روي قد جعله الله تعالى متعبداً لآدم عليه السلام، ثم درس بالطوفان، وغيره فلما جاءت مدة إبراهيم أمره الله تعالى ببنائه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثراً، فبعث الله ريحاً فكشف له عن أساس آدم، فرفع قواعده عليه. وقوله: {أن لا تشرك} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام، في قول الجمهور حكيت لنا بمعنى قيل له لا تشرك، وقرأ عكرمة {ألا يشرك} بالياء على نقل معنى القول الذي قيل له، قال أبو حاتم: ولابد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى لأن لا يشرك ع يحتمل أن تكون أن في قراءة الجمهور مفسرة، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد، وأنتم لم تفوا بل أشركتم، وقالت فرقة: الخطاب من قوله: {أن لا تشرك} لمحمد صلى عليه وسلم وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج ع والجمهور على أن ذلك إبراهيم وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك، والقائمون، هم المصلون، وذكر تعالى من أركان الصلاة: أعظمها. وهي القيام والركوع والسجود، وقرأ جمهور الناس {وأذّن} بشد الذال، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيص {وآذن} بمدة وتخفيف الذال وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنها {وأذن} فعل ماض وأعرب عن ذلك بان جعله عطفاً على {بوأنا}، وروي أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالأذان بالحج قال يا رب وإذا ناديت فمن يسمعني؟ فقيل له ناد يا إبراهيم فعليك النداء وعلينا البلاغ فصعد على أبي قبيس وقيل على حجر المقام ونادى: أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا واختلفت الروايات في ألفاظه عليه السلام واللازم أن يكون فيها ذكر البيت والحج، وروي أنه يوم نادى أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال وأجابه كل شيء في ذلك الوقت من جماد وغيره لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير، وقرأ جمهور الناس {بالحَج} بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها، و{رجالاً}، جمع راجل كتاجر وتجار، وقرأ عكرمة وابن عباس وأبو مجلز وجعفر بن محمد {رُجّالاً} بضم الراء وشد الجيم ككاتب وكتاب، وقرأ عكرمة أيضاً وابن أبي إسحاق {رُجالاً} بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع ورويت عن مجاهد، وقرأ مجاهد {رُجالى} على وزن فعالى فهو كمثل كسالى، والضامر، قالت فرقة أراد بها الناقة ع وذلك أنه يقال ناقة ضامر.ومنه قول الأعشى: فيجيء قوله: {يأتين} مستقيماً على هذا التأويل، وقالت فرقة الضامر هو كل ما اتصف بذلك من جمل أو ناقة وغير ذلك ع وهذا هو الأظهر يتضمن معنى الجماعات أو الرفاق فيحسن لذلك قوله: {يأتين} وقرأ أصحاب ابن مسعود {يأتون} وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، وفي تقديم {رجالاً} تفضيل للمشاة في الحج، قال ابن عباس: ما آسى على شيء فاتني إلا أن أكون حججت ماشياً فإني سمعت الله تعالى يقول: {يأتونك رجالاً} وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل ماشين، واستدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط ع قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكراً ع وهذا تأسيس لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس بالسفن ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إيتان مكة إما راجلاً وإما على {ضامر} فإنما ذكرت حالتا الوصول، وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا القوي، فأما إذا اقترن به عدو أو خوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصاً ما، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع، وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاماً ظاهره أن الوجوب لا يسقطه شيء من هذه الأعذار ع وهذا ضعيف والفج الطريق الواسعة، والعميق معناه البعيد. وقال الشاعر: [الطويل] والمنافع في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين ابن عباس وغيره، وقال أبو جعفر محمد بن علي: أراد الأجر و{منافع} الآخرة، وقال مجاهد بعموم الوجهين وقوله تعالى: {اسم الله}، يصح أن يريد بالاسم هاهنا المسمى بمعنى ويذكروا الله على تجوز في هذه العبارة إلا أن يقصد ذكر القلوب، ويحتمل أن يريد بالاسم التسميات وذكر الله تعالى إنما هو بذكر أسمائه ثم بذكر القلب السلطان والصفات، وهذا كله على أن يكون الذكر بمعنى حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام: «إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى»، وذهب قوم إلى أن المراد ذكر اسم الله تعالى على النحو والذبح، وقالوا إن في ذكر الأيام دليلاً على أن الذبح في الليل لا يجوز، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي، وقال ابن عباس الأيام المعلومات هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق، وقال ابن سيرين: بل أيام العشر فقط، وقالت فرقة: أيام التشريق، ذكره القتبي، وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه: بل المعلومات يوم النحر ويومان بعده وأيام التشريق الثلاثة هي معدودات فيكون يوم النحر معلوماً لا معدوداً واليومان بعده معلومان معدودان والرابع معدود لا معلوم ع وحمل هؤلاء على هذا التفصيل أنهم أخذوا ذكر {اسم الله} هنا على الذبح للأضاحي والهدي وغيره، فاليوم الرابع لا يضحى فيه عند مالك وجماعة وأخذوا التعجل والتأخر بالنفر في الأيام المعدودات فتأمل هذا، يبين لك قصدهم، ويظهر أن تكون المعدودات والمعلومات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا بمعلوم وتكون فائدة قوله: {معلومات} و{معدودات} [البقرة: 184، آل عمران: 24] التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال: هي مخصوصات فلتغتنم. وقوله، {فكلوا} ندب، واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بأكثرها مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل، و{البائس} الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها، يقال: بأس الرجل يبؤس وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم تكن فقراً، ومنه قوله عليه السلام، «لكن البائس سعد بن خولة»، والمراد في هذه الآية أهل الحاجة.
|